كتب روني ساسميتا أن التاريخ في العالم العربي يتحرك في دوائر. عندما أعلنت حركة حماس قبولها بعض بنود خطة غزة التي طرحتها إدارة دونالد ترامب، رأى محللون ذلك مجرد خطوة تكتيكية لبقاء حركة أنهكتها الحرب. لكن خلف هذا القرار، كما يقول الكاتب، يكمن إيقاع تاريخي أعمق، الإيقاع ذاته الذي أنشأ الدول العربية الحديثة.
يشير موقع ميدل إيست مونيتور إلى أن ما تواجهه حماس اليوم ليس ظرفًا جيوسياسيًا معزولًا، بل تكرارًا لقصة قديمة بدأت منذ اتفاقية سايكس-بيكو التي قسّمت الشرق الأوسط إلى كيانات مصطنعة. فحين جلس الدبلوماسيون البريطانيون والفرنسيون في عام 1916 لتقاسم تركة الدولة العثمانية، لم يولد العراق وسوريا ولبنان والأردن من حركات تحرر وطنية، بل من صفقات سرّية ومراسلات استعمارية. آنذاك، باع الشريف حسين لأتباعه الثورة العربية الكبرى باعتبارها ثورة من أجل الحرية، بينما كانت في جوهرها صفقة مع لندن وباريس.
يقول الكاتب، إن ذلك اللحظة التاريخية لم تُنتج فقط خيانة للوعود، بل أرست نمطًا سياسيًا لا يزال يتحكم في المنطقة حتى اليوم. فالاعتماد على القوى الخارجية – حين كانت أوروبية واليوم أمريكية – أصبح سمة تأسيسية للأنظمة العربية. لهذا، حين تنزف غزة، تكتفي العواصم العربية بالتعاطف لا الفعل؛ فالبنية السياسية التي نشأت عليها هذه الدول صُممت لتبقى تابعة. شهادات ميلادها تحمل توقيعات القوى الغربية نفسها.
ويرى ساسميتا أن حماس اليوم تقف في الموضع ذاته الذي وقفت فيه الدولة العثمانية يومًا ما، رمزًا لمقاومة الهيمنة الغربية. فالعثمانيون مثلوا مركز ثقل سياسي داخل العالم الإسلامي، وسقوطهم ترك فراغًا ملأته نخب عربية استعانت بالغرب لتثبيت حكمها. استبدلت تلك النخب السيادة بالحماية، والقرار الوطني بالاعتراف الدولي. بعد قرن كامل، تغيّر الأسياد فقط: أصبحت واشنطن بدلًا من لندن، والبنتاجون بدلًا من القسطنطينية.
في هذا السياق، ينبغي فهم قبول حماس الجزئي لخطة غزة. فالخطة التي صيغت في واشنطن واقترحها دبلوماسيون غربيون، تدعو إلى إنشاء "الهيئة الانتقالية الدولية لغزة" التي تدير القطاع تحت إشراف دولي، ويُذكر من بين أعضائها توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي ارتبط اسمه بحرب العراق وتعميق النفوذ الغربي في المنطقة. وجوده ضمن ما يسمى "مجلس السلام" برئاسة ترامب ليس صدفة بل رمز متكرر: المهندسون القدامى للنظام الاستعماري القديم يعودون الآن لإعادة رسم المشهد.
يرى الكاتب أن مصير غزة يُرسم مجددًا خارج حدودها، تمامًا كما رُسمت خرائط الدول العربية في غرف أوروبا قبل قرن. تغيّرت المفردات فقط: صارت "الوصاية" تُسمّى "الانتقال"، و"المستعمرة" تُسمّى "إدارة دولية"، بينما بقي جوهر السيطرة كما هو. ما يُعرض كخطة إعادة إعمار واستقرار، هو في الحقيقة إعادة فرض للإدارة الغربية على مصير العرب.
ويؤكد ساسميتا أن قبول حماس للخطة ليس تخلّيًا عن المقاومة، بل محاولة للبقاء بعد عامين من القصف والحصار والعزلة. ومع تراجع دعم إيران وتردد الدول العربية في مواجهة واشنطن أو تل أبيب، تجد الحركة نفسها محاصَرة دبلوماسيًا وعسكريًا. الخطة تمنحها هدنة مؤقتة وفرصة لالتقاط الأنفاس، لكنها في الوقت نفسه تُقنّن الوصاية الأجنبية على غزة.
ويصف الكاتب هذه المفارقة بأنها مأزق المقاومة في الشرق الأوسط ما بعد سايكس-بيكو: من يقاوم الهيمنة الغربية يُضطر أحيانًا للقبول بشروطها كي ينجو. فإيران، مثل حماس، تواجه المعادلة ذاتها؛ تعارض النظام الغربي لكنها تعمل داخله. بينما الأنظمة العربية الأخرى تحسب مصالحها عبر عدسات واشنطن وتل أبيب، لا عبر ضميرها القومي.
ويضيف أن غياب التضامن العربي الحقيقي ليس طارئًا بل بنيويًا؛ فالقادة الذين تحالفوا مع بريطانيا وفرنسا قبل قرن، لهم ورثة في السلطة اليوم يسعون للتطبيع مع إسرائيل برعاية أمريكية. الدائرة أغلقت على نفسها: الخيانة تحولت إلى تقليد سياسي.
ويعتبر ساسميتا أن خطة غزة ليست مجرد مبادرة سلام، بل سايكس-بيكو ثانية، لا ترسم حدودًا جغرافية بل تعيد تراتبية النفوذ: من يقرر ومن يُنفّذ. مشاركة توني بلير تجعل الرسالة واضحة: الغرب لا يزال وصيًا على الشرق. أما الفلسطينيون، فكل ما يملكونه هو التنفس المؤقت وسط الأنقاض.
ويختتم الكاتب بالتأكيد أن قبول حماس بالخطة قد يوقف النزيف مؤقتًا، لكنه يُكرّس من جديد واقع السيطرة الخارجية على القرار الفلسطيني. فالتاريخ، كما يقول، يعيد نفسه بدقة مؤلمة: بعد قرن من الثورة ضد العثمانيين باسم "التحرر"، تعود العواصم العربية لتقف تحت إشراف الغرب. تغيّر لون الحبر، لكن الخريطة هي ذاتها.
https://www.middleeastmonitor.com/20251011-hamas-could-fight-the-war-but-not-the-arab-history/